مقـامَـــةُ التــَّوحيــد
فَاعْلَمْ أَنَّهُ ﻻَ إِلَهَ إِﻻَّ اللَّهُ
فيا عجباً كيف يعصى اﻹله
وفي كل شيء له آية
أم كيف يجحده الجاحد
تدل على أنه واحد
التوحيد ، هو حق الله على العبيد ، وهو أول ما دعا إليه الرسل ، وبه كل كتاب نزل ، وهو أصل اﻷصول ، والطريق للوصول ، وبه عرف المعبود ، وعمر الوجود ، وﻷجله أعدت الجنة والنار ، وسل السيف البتار ، وقوتل الكفار ، وﻹقامته في اﻷرض دعت اﻷنبياء ، وعلمت العلماء ، وقتل الشهداء ، وهو أول مطلوب ، وأعظم محبوب ، وهو أشرف المقاصد ، وأعذب الموارد ، وأجل اﻷعمال ، وأحسن اﻷقوال ، وهو أول اﻷبواب ، وبداية الكتاب ، وأعظم القضايا ، وأهم الوصايا ، وخير زاد ، يحمله العباد ، ليوم التناد ، وهو قرة عيون الموحدين ، وبهجة صدور العابدين ، وهو غاية اﻵمال ، وأنبل الخصال ، بل هو أعظم الكفارات ، وأرفع الدرجات ، وأكبر الحسنات ، وهو منشور الوﻻية ، وتاج الرعاية ، والبداية والنهاية ، وهو اﻹكسير الذي إذا وضع على جبال الخطايا أصبحت تذوب ، وصارت حسنات بعد أن كانت من الذنوب .
وعلى هذا حديث (( يا ابن آدم لو أتيتني بقراب اﻷرض خطايا ثم جئتني ﻻ تشرك بي شيئاً ﻷتيتك بقرابها مغفرة )) .
وهو الذي هز في طرفة عين قلوب السحرة . فقالوا بعزم ماض : اقض ما أنت قاض ، والمرأة التي سقت الكلب ، فغفر لها الذنب ، كان معها توحيد الرب ، والرجل الذي قتل مائة رجل ، وذهب إلى القرية على عجل ، فأدركه اﻷجل ، غفر له بالتوحيد عز وجل . والتوحيد كنـز جليل ، في قلب الخليل ، فقال لما شاهد الكرب الثقيل ، حسبنا الله ونعم الوكيل .
ولما قال الصدّيق في الغار ، لسيد اﻷبرار ، لو نظر أحدهما لرآنا ولسمعنا ، قال : ﻻَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ، إنما قال ذلك بلسان الموحد ، وقد سدد بتوفيق الله وأيد .
وما فلق الله البحر للكليم ، إﻻ ﻷنه صاحب توحيد عظيم ، ونهج كريم ، ولو وضعت السموات واﻷرض في كفة الميزان ، وﻻ إله إﻻ الله في كفة لكان لها الرجحان ، ولو كانت في حلقة حديد لفصمتها ، وفي صخرة لفجّرتها ، وﻻ إله إﻻ الله مفتاح الجنان ، وله أسنان ، من الواجبات واﻷركان ، وصاحبها ﻻ يخلد في النار ، وﻻ يلحق بالكفار ، وقد قالوا ﻷحد العلماء وقد سجن ، وفي سبيل هذه الكلمة ذاق المحن ، قل كلمة التوحيد، قال من أجلها وضعت في الحديد ، وقالوا ﻷحد اﻷولياء وقد رفع على خشبة الموت ، وقرب منه الفوت ، قل ﻻ إله إﻻ الله وﻻ تغفل ، قال : من أجلها أقتل .
وسمع أحد الصالحين رجﻼً يقول ﻻ إله إﻻ الله ومد بها صوته فبكى وقال :
وإني لتعروني لذكرك هزة
كما انتفض العصور بلله القطرُ
وسمع أحد العلماء رجﻼً يقول : ﻻ إله إﻻ الله ، قال : صدقت وبالحق نطقت .
فيا أيها العباد خذوا من التوحيد قطرة ، وضعوه على الفطرة ، وولّوا وجوهكم شطره . ويا من أثقله الهم ، وأحاط به الغم ، وهزه اﻷلم الجم ، قل ﻻ إله إﻻ الله .
ويا من أثقلته الديون ، أو غيبته الشجون ، وبات وهو محزون ، قل ﻻ إله إﻻ الله .
ويا من اشتد به الكرب ، وعﻼه الخطب ، اذكر الرب ، وقل ﻻ إله إﻻ الله .
هي أجمل الكلمات قلها كلما
ضج الفؤاد وضاقت اﻷزمان
اقرأها بعين الروح ، قبل أن تقرأها بعينك في اللوح ، واكتبها في سويداء قلبك ، لتحملها إلى ربك ، وتتخلص من ذنبك .
ولما قيل لفرعون ، قل ﻻ إله إﻻ الله ، تلعثم الحمار وتعثر ، فدس أنفه في الطين وتدثر . وقيل ﻷبي لهب قل ﻻ إله إﻻ الله ، قال الخسيس ، أبى علي الجليس ، واﻷخ الرئيس ، إبليس . تقيأ شاعر البعث المخذول ، ليقول :
آمنت بالبعث رباً ﻻ شريك له
وبالعروبة ديناً ما له ثاني
قلنا يا شاعر البعث ، وعزة ربي ليخزينك يوم البعث . يا شاعر الخمر والحشيشة ، قد أرغم أنفك أبو ريشة ، فقال :
أمتي كم صنم مجدته
لم يكن يحمل طهر الصنمِ
من يأخذ تعاليمه من باريس ، حشر مع شيخه إبليس .
يا مسكين ، تتعلم حروف الهجاء من بكين ، وتهجر رسالة نزل بها الروح اﻷمين ، على سيد المرسلين ، من رب العالمين .
يرضع الوليد حليب التوحيد ، حتى يأتيه الحليب الصناعي من مدريد ، ليرتد المريد .
صوت التوحيد يرتفع على كل صوت ، وقوته خير من كل قوت ، لخصه أبو بكر فقال : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي ﻻ يموت
لوﻻ أن كلمة أحد ، في قلب بﻼل مثل جبل أحد ، ما صمد .
التوحيد له كتاب ، وله قلم جذّاب ، ومداد جميل ، وكاتب جليل ، فكتابه الكون وما فيه ، وقلمه قلبك النبيه ، ومداده دمعك المترقرق ، والكاتب إيمانك المتدفق .
التوحيد له رسالة أبدية ، ودعوة سرمدية ، وﻷصحابه إلى مستقرهم ممر ، وبعد مرورهم مستقر . فرسالة التوحيد إفراد الباري باﻷلوهيه ، والربوبيه ، ودعوته اتباع سيد البشريه ، ورسول اﻹنسانيه . وممر أصحابه الصراط المستقيم ، ومستقرهم جنات النعيم .
للتوحيد منبر ، ومخبر ومظهر ، ومسك وعنبر .
فمنبره القلب ، إذا أخلص للرب ، ومخبره النيات الصالحات ، ومظهره عمل باﻷركان ، وخدمة للديان ، ومسكه الدعاء واﻷذكار ، وعنبره التوبة واﻻستغفار .
للتوحيد عين وبستان ، وحرس وسلطان ، وسيف وميدان .
فعينه النصوص الواضحه ، وبستانه اﻷعمال الصالحه ، وحرسه الخوف والرجاء ، وسلطانه واعظ الله في القلب صباح مساء ، وسيفه الجهاد ، وميدانه حركات العباد .
وللتوحيد قضاة وشهود ، وأعﻼم وجنود ، وحدود وقيود .
فقضاته الرسل الكرام ، وشهوده العلماء اﻷعﻼم ، وأعﻼمه شعائر الدين ، وجنوده فيلق من الموحدين ، وحدوده ما جاء به الخبر ، وصح به اﻷثر ، وقيوده ما ورد من شروط ، للتوحيد المضبوط .
من دعائم التوحيد ، عدم صرف شيء من العبادة لغير المعبود ، وتحريم تقديم شيء من لوازم اﻷلوهية لغير الله مما في الوجود ، وركيزته إخﻼص ليس فيه رياء ، وعﻼمته إخبات ليس معه ادعاء .
فﻼ تُعبد النجوم ولكن يُعبد مُركبها ، وﻻ تعبد الكواكب بل يعبد مكوكبها ، وﻻ يُؤلّه حجر ، وﻻ بشر ، وﻻ شجر ، وﻻ مدر ، بل يؤلّه من فجر من الحجر الماء ، وأوجد اﻷحياء ، وخلق الشجر كأنها أصابع اﻷولياء ، فسبحان رب اﻷرض والسماء .
الوحي هز أبا جهل هزّا ، ﻷنه يتهزّى ، وسجد لﻼّت والعزّا . قاتل الله هبل ، ومن طاف حوله ورمل ، أو نذر له أيّ عمل ، يا من خاف على نفسه من الحريق ، والدمار والتمزيق ، احذر من الشرك وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ إذا أخلصت التوحيد جاءك النصر ، وادخر لك اﻷجر ، ومحا عنك الوزر .
سمع أحد العباد قارئاً يتلوا فَاعْلَمْ أَنَّهُ ﻻَ إِلَهَ إِﻻَّ اللَّهُ ، فقال أواه ، وارتفع بكاه ، وكان أحد الملوك الصالحين ، يسمع أحد القراء يقرأ بتلحين شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ ﻻ إِلَهَ إِﻻ هُوَ وَالْمَﻼئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﻻ إِلَهَ إِﻻ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فجلس يبكي ويقول وأنا أشهد مع الشاهدين .
قال أبو معاذ الرازي ، لو تكلمت اﻷحجار ، ونطقت اﻷشجار ، وخطبت اﻷطيار، لقالت ﻻ إله إﻻ الله الملك القهار . ولما قال فرعون اللعين : فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قال : رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ، فكأنما لكمه بالجواب ، ولطمه بالخطاب . ولما قال إمام التوحيد للنمرود العنيد فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ ، بهت وكُذّب ، وخسر وعُذِّب ، وهذا لظهور آيات التوحيد وقوة سلطانه ، وعزة أهله وأعوانه ، وقد أمهر يحيى بن زكريا التوحيد رأسه ، وقدم حمزة لما غمره من نور التوحيد رأسه ، ولما ذاقه جعفر ، تقطع وبالرمل تعفر ، وذبح الخلفاء على بساطه ، وضرب اﻷئمة على التوحيد بأيدي الظلم وسياطه ، ونحر الشهداء على فراش التوحيد وبﻼطه ، وكم من موحد وضع في الزنزانة ، لما أعلن إيمانه .
ولما نطق حبيب بن زيد ، بكلمة التوحيد ، عند مسيلمة الكذاب العنيد . قطّعه بالسيف فما أَنْ ، وﻻ قال له تأن ، بل اشتاق إلى الجنة وحن ، ولما ذهبوا بعبد الله بن حذافة إلى القدور ، والجثث فيها تدور ، والتوحيد في قلبه يمور ، بكى وقال : يا ليت لي بعدد شعر رأسي أرواح ، لتذوق القتل في سبيل الله والجراح .
وضرب طلحة يوم أحد بالسيوف والرماح ، فما شكى وﻻ صاح ، حتى سال بالدم جبينه ، وشُلت يمينه ، ويبقى دينه ، ﻷن التوحيد قرينه . وقاتل مصعب قتال اﻷسود ، حتى وسّد اللحود ، ﻷنه وحّد المعبود . ولما حضر عبد الله بن جحش معركة أحد ، دعا واجتهد ، بكﻼم يبقى إلى اﻷبد ، فقال : اللهم هيئ لي عدواً لك شديد حرده ، قوي بأسه ، فيقتلني فيك فيجدع أنفي ، ويبقر بطني ، ويفقأ عيني ، ويقطع أذني ، فإذا لقيتك يا رب فقلت لي : يا عبد الله لم فعل بك هذا ؟ قلت : فيك يا رب . فهل سمعت نشيداً كهذا النشيد ، وهل أطربك قصيداً كهذا القصيد ، ﻷنه من ديوان التوحيد .
وضع أحدُ الظلمة أحدَ اﻷولياء ، بين يدي اﻷسد ليتركه أشﻼء ، شمّه اﻷسد ثم تركه وذهب ، قيل للولي : لماذا تركك ؟ قال : بسبب التوحيد وهو أعظم سبب ، قالوا : فماذا كنت تفكر ؟ قال : كنت أفكر في سؤر اﻷسد هل هو طاهر أم نجس يطهر .
واعلم أن صدق التوحيد أقام بعض اﻷولياء ، في الليلة الظلماء ، في ذروة الشتاء ، يتوضأ بالماء ، ويقطع الليل بالصﻼة والدعاء ، والمناجاة والبكاء ، وحرارة التوحيد أيقظت في الصالحين ، ذكر الله كل حين ، فلهم بالتسبيح زجل وحنين ، وعزيمة التوحيد دفعت المنفقين ، وجعلتهم بأموالهم متصدقين ، على الفقراء والمساكين .
إذا ناداك نوح التوحيد ، وقال اركب معنا أيها العبد الرشيد ، فﻼ تفوتك سفينة الحميد المجيد ، وَجَدَ إبراهيم بن أدهم ورقة مكتوب فيها الله وقد سقطت في الطريق فبكى وحملها ، وطهرها وطيبها ، فطهر الله نفسه ، وطيّب اسمه ، وقد أوصى صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل ، أن يكون أول ما يدعو إليه توحيد الله عز وجل . وكان يبدأ بالتوحيد خطبه ، ويخط به كتبه ، ويدعو إليه ليﻼً ونهارا ، وسراً وجهارا .
__________________
اخي سوف تبكي عليك العيون وتسأل عنك دموع المآين
فإن جف دمعي سيبكي الغمام ترصع قبرك بالياسمين
سأثأر ولكن لرب ودين وأمضي على سنتي في يقين
فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يكيد العدى